الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما. وبعد: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى: ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة . وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلابد له من أمرين: أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به. والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء : أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود . /الثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم. والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر. إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه: أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: وكذلك قوله تعالى: فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين. /الوجه الثإني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته فى الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شىء يعطيهم فى الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شىء يعطيهم فى الدنيا أعظم من الإيمان به . وحاجتهم إليه فى عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم فى خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر. فأما توحيد الربوبية الذى أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفى وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: (يابن آدم، خلقت كل شىء لك، وخلقتك لى، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له). واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما فى الحديث الصحيح، الذى رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرى ما حق الله على عباده؟" قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حقهم ألا يعذبهم) /وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع. فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة فى الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم،{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22]، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشىء آخر؛ كما نقرره فى موضعه. واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذى لا إله إلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه. ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا فى وقت وفى بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد / يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلابد له منه فى كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا [إبراهيم] الخليل صلى الله عليه وسلم: واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين: أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان فى الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله ـ سبحانه ـ يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: ولهذا لم يجئ فى الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف فى موضع النفى، كقوله: الأصل الثإني: النعيم فى الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما فى الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك فى غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة). رواه النسائى، وغيره. وفى صحيح مسلم وغيره، عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟! ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار؟! ـ قال ـ فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه ـ سبحانه ـ فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه)، وهو الزيادة. فبين النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشىء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. / وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفى الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى فى حق الكفار: وهذان الأصلان ثابتان فى الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التى فطر الناس عليها. وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى ـ إذا أنكر اللذة ـ فإن ذوقها ووجدها ينفى إنكارها. وقد يحتجون بالقياس فى الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية. الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول. فهذا الوجه يقتضى: التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه. ويقتضى أيضا: محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ/ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول. ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه. الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته فى عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلابد أن يسأمه، أو يفارقه. وفى الأثر المأثور: (أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان) (واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته. يقول: أنا كنزك، أنا مالك. وكذلك نظائر هذا فى الحديث: (يقول الله يوم القيامة: يابن آدم، أليس عدلا منى أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه فى الدنيا؟). وأصل التَّولِّى/ الحب؛ فكل من أحب شيئًا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء. وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفى الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه). رواه الترمذى، وغيره . الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: وهذان الوجهان فى المخلوقات نظير العبادة والاستعانة فى المخلوق، فلما قال: الوجه السادس: أن الله ـ سبحانه ـ غنى، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو ـ سبحانه ـ محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا / له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله. فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ـ ولو بالدعاء أو الثناء ـ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون فى نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه. وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا. إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ. والرب ـ سبحانه ـ يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة. فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو / تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله، وارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وكن ممن قال الله فيه: الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها. الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم فى ذلك. الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك. قال الله تعالى: جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغى، فغيرك من الناس أولى ألا يكـون عالما بمصلحتك، ولا قـادرًا عليها، ولا مريدا لها، والله ـ سبحانه ـ هو الذى يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما فى حديث الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب). وهو مثل المقدمة لهذا الذى أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته. والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولابد فى العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلابد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلابد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلابد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلابد لكل حى من إرادة، ولابد لكل مريد من عون يحصل به مراده. فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى فى حق كل إنسان يجده فى نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه. والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذى يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض. ومن المستعان ما يكون هو الغاية التى يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية فى الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع. / فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لابد للنفس من شىء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها. ولابد لها من شىء تثق به وتعتمد عليه فى نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا. مثل: عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم فى النوائب. وقد يكون خاصًا فى المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم ! تعس عبد الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة!: إن أعطى رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التى تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول. وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب فى رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان. وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله،/ فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه ،وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران. فإذا علم أن العبد لابد له فى كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه ـ وذلك هو صمده الذى يصمد إليه فى استعانته وعبادته ـ تبين أن قوله: إما أن يعبد غير الله ويستعينه ـ وإن كان مسلما ـ فالشرك فى هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل. وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ. وإما أن يستعينه ـ وإن عبد غيره ـ مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التى بعث الله بها رسوله . والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لابد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام . فصـل فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو ـ سبحانه ـ الذى ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره. ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20-21] وهو ـ سبحانه ـ ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه؛ إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغنى عن العالمين وفى الحديث الصحيح الإلهى: (يا عبادى لو أن أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُم / وَجِنَّكُمْ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا، ولو قاموا فى صعيد واحد فسألونى، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا) إلى آخر الحديث . فالرب ـ سبحانه ـ غنى بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر فى شىء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله: كَمُلَ فَفَعل، وإحسانه وجُودُه من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كُل ما يريده فعله، فإنه فعال لما يريد. وهو ـ سبحانه ـ بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج فى شىء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولى من الذل. والعبد كلما كان أذل للّه وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله. وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسِيرهُ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل: بين التذلل والتدلل نقطة ** فى رفعها تتحير الأفهــام ذاك التــذلل شــــــرك ** فافهم يا فتى بالخلف فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق، إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ـ ولو فى شربة ماء ـ نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شىء. ولهذا قال حاتم الأصم ـ لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ قال: أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك. فالرب ـ سبحانه ـ أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون/ إليه. والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون فى أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم ؟ ! فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة. والرب ـ تعالى ـ يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شىء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شىء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغى لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذى يعمل لمصلحته التى هى مصلحة،لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك. فهم ثلاثة أصناف: ظالم، وعادل، ومحسن. فالظالم: الذى يأخذ منك مالا أو نفعًا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك. والعادل: المكافئ. كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين. والمحسن: الذى يحسن لا لعوض يناله منك. فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق، وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك. وبكل حال: ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع. وسائر الخلق، إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق / المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بنى أمر العالم. وإما بطريق الإحسان منك إليهم. فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم فى الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم. فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيدًا مطاعًا، وهو فى الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذى أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم، نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك. والرب ـ تعالى ـ يمتنع أن يكون المخلوق مكافئا له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا رفعت مائدته ـ: (الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا) رواه البخارى من حديث أبى أمامة. بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضـل على العبد وحده لا شريك له فى ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد فى كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أى بموجب علمه ذلك. فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق فى جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجـب إقـراره، وهـؤلاء هـم عباد الله . /الإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه، وليس أحد غنيًا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغنى عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بسط هذا فى مواضع. والإنسان يذنب دائما، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلا، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى: والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال: وفى صحيح أبى داود وابن حبان: (اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا) ، وفى الفاتحة: ولفظ العبد فى القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال: وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم فى الدَّجَّال: (فيوحى الله إلى المسيح أن لى عبادًا لا يَدَان لأحد بقتالهم) ، وهذا كقوله: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا} [الإسراء: 5]، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدُونَ، مُذَللونَ، مقهورون، يجرى عليهم قدره. وقد يكون كونهم عبيدًا: هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارًا، كقوله: منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه .ومنها:دعاؤهم إياه عند الاضطرار. ومنها: خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته. ومنها: انقيادهم لكثير مما أمر به فى كل شىء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذى يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له فى بعض ما أمر به ـ وإن كان هو التوحيد ـ لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذى بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه فى أمور. والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شىء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب. وأما فقر المخلوقات إلى الله ـ بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شىء من صفاتها، وأفعالها إلا به ـ فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله ـ سبحانه ـ الملك والحمد. وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث / دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق . والصواب: أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غنى، فهو غنى بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه: أنه لا يوجد إلا بالخالق. هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف . ولكن طائفة تدعى أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها، وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله. وقل للأرض: من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حـواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالى وغيره، وهو أحـد الوجوه التى ذكرهـا أبو بكر بن الأنبارى فى قوله: والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها، له أمر فِطْرِىّ فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بسط الكلام على هذا فى مواضع، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولى، والتمثيلى، فإن القياس البرهإني العقلى، سواء صيغ بلفظ الشمول، كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبين أن الجامع هو علة الحكمة ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين فى غير هذا الموضع . والتحقيق: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث هو علم فطرى، ضرورى فى المعينات الجزئية، وأبلغ مما هو فى القضية الكلية، فإن الكليات إنما تصير كليات فى العقل بعد استقرار جزئياتها فى الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية، التى يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم: الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية ونحو ذلك، فإنه أىّ كلى تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، / وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما: الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أى شىء كان وعدمه، علم أن ذلك الشىء لا يكون موجودا معدوما فى حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضى بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك . ولما كان القياس الكلى فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل ـ لعله فى الآيات الإلهيات ـ استعمل قياس الأولى لا القياس الذى يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التى لا كمال فيها، فالبارى ـ تعالى ـ أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذى لا نقص فيه كالحياة، والعلم، والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس: أن الآية تدل على عين المطلوب الذى هو آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل، وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه فى مواضع. ثم الفِطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة علىه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلابد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضى تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلابد فى ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، / فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلا، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلابد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له . والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية، هى التى جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأى والسمع . والمتفلسفة ـ كابن سينا والرازى ومن اتبعهما ـ قالوا: إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لابد له من واجب، قالوا: والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين. وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، ورَكَّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا، بل زعم أنه ممكن. وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذَّاقُهُمْ عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بينا فى مواضع أن القِدَم، ووجوب الوجود، متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف على طائفة منهم نزاع فى ذلك، إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديمًا أزليًا. ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس فى دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك، وهذا مما بيَّن تهافتهم فيه الغزالى وغيره، لكن / عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبًا؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبًا، هذا عمدتهم . وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالى فساده بحسبه . وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان: فيقال للموجود بنفسه الذى لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهى المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعى التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بسط القول عليه فى مواضع . والمقصود هنا الكلام أولاً فى أن سعادة العبد فى كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه؛ أى فى أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى:
|